أحس الرائد محمد أنه على وشك الموت...فجأة وجد نفسه وحيدا فى صحراء غريبة..رمال هذه الصحراء تحرق قدميه الحافيتين وشمسها تلهب ظهره العاري بسياط من لهيب حرها.. قام واقفا محاولا استيعاب الموقف..ما الذي جاء به لهذه الصحراء وماذا سيفعل؟...آلاما رهيبة اعتصرت قدمه اليمنى كلما حاول أن يتحرك.. تحامل على نفسه وبدأ المشي.. مشى لساعات وساعات دون قطرة ماء واحدة ولا ظل يأويه حتى ظن أنه ميت لا محالة في هذه الصحراء دون أن يدري عنه أحد...ولكن فجأة من بعيد لمحت عيناه واحة فيها أشجار.. جر قدمه المصابة وجرى بأقصى ما يمكنه نحو الماء.. قفز فى عين الماء غير مصدق أنه نجى.. وبعد أن شرب وارتوى رفع رأسه ليجد رجلا طويلا مفتول العضلات يلبس رداء أبيضا زاهيا واقفا واضعا يديه خلف ظهره بجوار عين الماء مبتسما له.اقترب منه الرجل قائلا:."السلام عليكم يا محمد...كنت بانتظارك".تعجب الرائد محمد قائلا: "من أنت؟ وكيف عرفت اسمي؟...ولماذا تنتظرني؟".ابتسم الرجل الغريب قائلا: "أنا اسمي جعفر ...أرسلني رجل يحبك كي أستقبلك فهو متشوق لرؤيتك".أحس الرائد محمد بسكينة غريبة ومد يده للسلام على الرجل ولكنه فزع عندما رأي أن الرجل ليس له يدين ولكن له جناحين!.
صوت انفجار قنبلة صغيرة كان كفيلا بإيقاظ الرائد محمد زرد من نومه وإنهاء حلمه الغريب.. دوت صفارات الإنذار معلنة أن النقطة الحصينة 149 والوحيدة المتبقية في خط بارليف بدأت مرة أخرى في قصف وحدة الرائد محمد والتي تتبع وحدات الجيش الثالث الميداني التي عبرت القناة وطهرت كل جيوب خط بارليف من الجيش الإسرائيلي ولم يتبقى إلا هذه النقطة الحصينة التي كانت كفيلة بضياع فرحة النصر والعبور من الجيش المصري. كانت النقطة 149 في مكان استراتيجي يمكنها من مهاجمة كل من يحاول العبور من هذه النقطة وقد صممت بعبقرية عسكرية حتى أن القصف الجوي لم يعد مجديا لتصفيتها وصارت ذخائرها تحصد الكثير من أرواح جنود مصر رغم مرور يومين كاملين على العبور.
جلس الرائد محمد زرد في خندقه يوم التاسع من أكتوبر 1973 مع فرقته وقد تعلقت عيونهم بالنقطة الحصينة التي لا تبعد سوى مائة متر عنهم إلا أنها كانت محصنة بشكل يجعل الهجوم البري عليها مستحيلا مما جعل الجنود يجلسون في خنادقهم في صمت مطبق و حيرة كبيرة.
"أنا هعدى وهاقتحمها بإذن الله"...كسرت كلمات الرائد محمد الصمت واتجهت جميع العيون إليه ثم إلى القائد الذي رد عليه قائلا: "مستحيل.. دا انتحار.. هينسفوك قبل ما توصل نصف المسافة.. إحنا ننتظر الإمداد الجوي"...قال الرائد محمد: "استحلفك بالله تسمح لي يافندم..دي اللحظة اللي كنت انتظرها من زمان...لو خرجت من الخندق ده وحاولت أكيد هاكسب...يا إما أوصل وننتصر عليهم...يا إما يقتلوني وابقى شهيد"...حاول القائد أن يقاطعه إلا أن الرائد محمد أكمل حديثه وقد سالت من عينه دمعة لم يستطع أن يحبسها وتهدج صوته قائلا:"امبارح يافندم زارني واحد أول مره أشوفه...قرأت عنه كتير...جعفر بن أبي طالب...اللى فضل إن أيديه تتقطع بسيوف الروم فى غزوة مؤته على إنه يترك راية الإسلام تقع على الأرض..والرسول شافه فى الجنة بيطير...ربنا عوضه عن ايديه بجناحين...وسماه الشهيد الطيار...زارني و قال لى إن الرسول صلى الله عليه وسلم مشتاق يشوفنى...أرجوك يافندم...العساكر اللى استشهدوا من 3 ايام على خط بارليف أكيد فى الجنة دلوقتى...كلهم كانوا شباب فى سنى..أرجوك تسمح لى".
مائة متر زحفها الرائد محمد زرد والرصاص ينهال عليه من النقطة الحصينة...اخترقت دفعة رصاصات بطن الرائد محمد وأحس أنه من الممكن أن يموت فى أي لحظة فأخرج قنبلتين يدويتين ونزع فتيلهما لينفجرا حتى لو قتل...أحس محمد أنه لا وقت للزحف فصرخ "الله أكبر" وقام راكضا بأقصى سرعة نحو الحصن ... كان الرصاص يخترق كل أجزاء جسده لكنه ظل يجري حتى وصل للحصن وألقى القنابل اليدوية فى النافذة الصغيرة التى تخرج منها مدافع الأعداء فقتلهم ودلف بجسده النحيل من تلك النافذة الصغيرة إلى داخل الحصن.
سكنت الأصوات داخل الحصن للحظات...وظن جنود مصر في الخنادق أن الرائد قد قتل.. إلا أنه بعد دقائق من الصمت وجدوا باب الحصن يفتح ويظهر الرائد محمد زرد ممسكا أحشائه بيده والتي أخرجتها جراح عشرات الرصاصات بينما كانت الدماء تغطى وجهه وجسده ملوحا بيده الأخرى للجنود بأن يخرجوا من الخنادق ويأتوا للحصن صارخا بآخر ذرة من طاقة مازالت في جسده "الله أكبر".
ارتفع نداء "الله أكبر" من حناجر الجنود راكضين نحو باب الحصن الذي فتحه الرائد محمد لهم وأخذوه للخيمة الطبية قسرا بعد أن أراد أن يضع جسده ليسد خندقا في أرضية باب الحصن لتتمكن الآليات الصغيرة ذات العجلات من العبور فوق جسده صارخا فيهم " اعبروا فوقي..اصعدو لأعلى..أكملوا عملكم..طهروا النقطة".
مات رحمه الله في المستشفى العسكري الذي نقل إليه وكان مبتسما رغم آلام الجسد الذي تحول لمصفاة من رصاصات العدو.. كانت آخر حركة له في الدنيا أن مد يده لأعلى فاحتار طبيبه ماذا يريد.. وربما كان الشهيد قد مد يده متحسسا جناحي جعفر...وربما كانت آخر تمتماته بعد الشهادتين قوله لجعفر: "وأنا أيضا متشوق للقاءه ياجعفر..هيا بنا"