منذ سنوات كنا نجلس أنا ومثقف عربي مرموق من دولة شقيقة علي شاطيء النيل وكنا نتحدث عن ثروات هذه الأمة المنكوبة في ماضيها وحاضرها وسألني هذا الصديق هل تعتقد أن مصر دولة فقيرة.. قلت له بالمقاييس البترولية ولغة المال في الزمن المعاصر يقولون ذلك.. قال هل تقبل أن تأخذوا البترول منا ونأخذ نحن النيل.. تعالوا نستبدل مواقعنا علي خريطة الزمن والحياة.. نجلس نحن علي شواطيء النيل وتجلسون أنتم فوق آبار البترول.. وأكمل صديقي أنا علي يقين أنكم ترفضون ذلك مهما كانت موارد البترول ولكن المشكلة الحقيقية أنكم لا تدركون ما بين أيديكم من ثروات.. ورغم مرور سنوات طويلة علي هذه القصة إلا أنني أسأل نفسي كثيرا هل مصرفعلا دولة فقيرة.. ولماذا نردد دائما هذه المقولة.. ونروج لها ونحن نطلب المساعدات من هنا وهناك وكلما شعرنا بأن ملايين المعونات التي نتلقاها تتعثر انزعجنا ودفعنا ثمن ذلك دموعا وكرامة..
أقول.. هذه مقولة باطلة ولكن الخطأ الأساسي أننا نملك أشياء كثيرة وكثيرة جدا لا نعرف قيمتها.. ولا ندرك أهميتها.. وهل هناك وطن في الدنيا يملك كل هذه الأشياء ويمكن أن يكون فقيرا.. ولنا أن نتصور دولة تملك كل هذه الإمكانيات والموارد وتدعي الفقر..
* إذا كان عمر البترول بضع سنوات فإن عمر النيل آلاف السنين وعلي ضفاف هذا النهر قامت حضارات اذهلت العالم كله قبل أن يكون هناك بترول وتكنولوجيا.. ومن خيرات هذا النهر نشأت أجيال شاركت في صنع الحضارة الإنسانية في أذهي عصورها.. ولا يوجد شعب في العالم يسيء استخدام المياه مثل الشعب المصري.. أننا نسرف في ذلك في كل شيء ابتداء بالاستخدام الآدمي للمياه وانتهاء بنظم الري المتخلفة.. وبعيدا عن النظريات واستخدام أساليب الزراعة الحديثة فإن مياه النيل قادرة علي توفير كل احتياجات مصر من الغذاء ولكن السياسات المتخبطة ما بين التجميع الزراعي والجمعيات التعاونية وفساد بنوك التسليف وإهدار حقوق الفلاحين جعلت الفلاح يهرب من أرضه ويهمل زراعته وظل سنوات طويلة يزرع بنفس الأساليب العقيمة التي عاش عليها أجداده.. وبعد ذلك نشكو من نقص المحاصيل الزراعية واستيراد القمح المسرطن وزراعة الخيار والكانتلوب..
* في مصر أكثر من ست ملايين قطعة أثرية.. وعلي ضفاف النيل70% من التراث الحضاري العالمي هوامش حرة.. وفيها أيضا تاريخ عريق لحضارات ممتدة ما بين الفرعونية والقبطية والإسلامية.. وفيها توجد معظم رموز الرسالات السماوية من موسي وعيسي ومريم ويوسف ويعقوب عليهم السلام إلي آل بيت رسول الله عليه الصلاة والسلام ولكن مصر التاريخ والعقائد والآثار لا تحتل مكانتها كما ينبغي علي خريطة السياحة العالمية أن كل ما نتباهي به الآن هي مدينة الأقصر العريقة ولا شيء غير ذلك إلا ما حدث في الغردقة وشرم الشيخ..
* في مصر أجمل شواطيء الدنيا وهي تشمل كل ألوان الشواطيء بما فيها من جمال وتنوع.. أن مصر تقع علي شاطيء البحر المتوسط بمساحات خرافية.. ولديها شواطيء البحر الأحمر.. ولديها شاطيء خاص جدا هو قناة السويس.. ولديها شواطيء النيل العريق.. وهذه الشواطيء ثروة لا تقدر بثمن.. علي مستوي النقل ستجد لها مكانة.. وعلي مستوي السياحة ستجد لها بريقـا.. وعلي مستوي الثروة السمكية.. والمواد البحرية وغيرها ستجد مصدرا من مصادر الثروة في كل شيء ابتداء بالرمال وانتهاء بالأسماك والمصايف ولكن ما هو دور هذه الشواطيء في الاقتصاد المصري.. وما هو الدخل الذي تحققه.. إنه شيء ضيئل للغاية..
* قبل ذلك كله في مصر مورد آخر لم نقدر في يوم من الأيام أهميته وقيمته ودوره وهم المصريون أنفسهم.. البشر.. كان حديثنا دائما شكوي من كثرة الذرية والتعداد.. والزيادة السكانية.. وأننا نزيد كل دقيقة الآلاف من البشر.. وإذا جلست أمام التليفزيون يخرج عليك شبح مخيف يقول لك يولد في مصر الآن ألف شخص.. وسوف يرتفع التعداد إلي مائة مليون إنسان بعد عشر سنوات.. نسينا أن في الصين أكثر من مليار ونصف إنسان يعملون ويأكلون ويهددون العالم كله بالصناعة والزراعة والتكنولوجيا.. نسينا أن في الهند مليار إنسان انتجوا السلاح النووي وأصبحوا من أهم المراكز الصناعية في العالم.. من الخطأ الجسيم أن يقال إن الثروة البشرية دليل فقر.. إنها فقر لمن لا يجيد استخدامها ولا يعرف قدراتها بحيث تتحول إلي عبء ثقيل مع الكسل والسلبية والتحايل..
فلا نحن فقراء في الموارد والقدرات والبشر ولكن الفقر الحقيقي أن يغيب العدل.. وتسقط معايير الكفاءة.. وتعلو الحشائش علي الأشجار..
__فاروق جويده